الدكرورى يكتب عن أم معبد عاتكة بنت خالد
بقلم / محمــــد الدكــــرورى
السيدة عاتكة بنت خالد، وعرفت بكنيتها أم معبد رضي الله عنها وأرضاها، فهى عاتكة بنت خالد بن منقذ الخزاعيّة، وزوجها هو أكثم بن أبي الجون الخزاعي، وقد أجلها النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، ونزل خيمتها بصحراء قديد، وهى قد أوتيت من البيان شيئا عظيما، ووصفت النبي صلى الله عليه وسلم في كلمات عظيمه، ولقد هبطت على خيمتها البركة عندما خرج النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرا ومعه أبو بكر، وعامر بن فهيرة، فنفد زادهم وأصابهم القحط، فنزلوا عندها، ولم تكن مسلمة، وكان زوجها بالخارج يرعى الغنم ، وإن المتأمل في سيرة النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وفي شمائله الحميدة وصفاته الشريفة، يُدرك ما حباه الله سبحانه وتعالى من أنواع الكمالات .
وما أيده به من المعجزات، وما عظم به جنابه وشرف مقامه، وهذا يوجب على المسلم أن يكون قريبا من هذه السيرة الشريفة، لأنها تبين المنهج الذي ينبغي أن يكون عليه المؤمن في عبادته لربه، وفيما يمضي فيه حياته، حتى يصل إلى تلك الدرجة التي أمر الله سبحانه وتعالى بها، وإن من تفاصيل سيرة نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم كلها آيات وعبر، وكلها خير وبِشر، سيرة شريفة كريمة، لا يملك المتأمل فيها إلا أن يعظم جناب هذا النبي الكريم، وأن يحمد الله سبحانه وتعالى أن جعله من أتباعه، وأن يبذل قصارى جهده لاقتفاء أثره، صلوات ربي وسلامه عليه.
ومن جمله ما كان في مسير نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، وسيره من مكة إلى المدينة، أنه صلى الله عليه وسلم مر بسيدة من سيدات العرب وامرأة من كرامهم، هذه المرأة التي مر بها النبي صلى الله عليه وسلم ولم تك إذ ذاك مسلمة، ولكنها رأت من هذا الرجل النبي العظيم محمد صلى الله عليه وسلم، ما أوجب عليها أن تؤمن به وتصدقه، وذلك لما رأته من مخايل النبوة والمعجزات العظيمة التي باتت تَترى بين ناظريها، وجزى الله هذه السيدة الكريمة خير الجزاء وأوفاه، فإنها أوتيت من البيان شيئا عظيما، حينما وصفت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفا دقيقا، يعجز عن أن يقول مثله كبار البلغاء.
ويقول حبيش بن خالد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من مكة إلى المدينة مهاجرا هو وأبو بكر ومولى أبي بكر عامر بن فهيرة ودليلهما الليثي عبد الله بن الأريقط مروا على خيمتي أم معبد الخزاعية وكانت امرأة برزة جلدة تحتبي بفناء القبة ثم تسقي وتطعم فسألوها لحما وتمرا ليشتروه منها، فلم يصيبوا عندها شيئا من ذلك وكان القوم مرملين مسنتين فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كسر الخيمة فقال “ما هذه الشاة يا أم معبد” فقالت شاة خلفها الجهد عن الغنم قال “هل بها من لبن” قالت هي أجهد من ذلك قال “أتأذنين لي أن أحلبها” قالت نعم بأبي أنت وأمي إن رأيت بها حلبا فاحلبها فدعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح بيده ضرعها وسمى الله ودعا لها في شاتها .
فتفاجت عليه ودرت واجترت ودعا بإناء يربض الرهط فحلب فيه ثجا حتى علاه البهاء ثم سقاها حتى رويت وسقى أصحابه حتى رووا وشرب آخرهم ثم أراحوا ثم حلب ثانيا فيها بعد ذلك حتى ملأ الإناء ثم غادره عندها وبايعها وارتحلوا عنها، فقلما لبثت حتى جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافا يتساوكن هزالا، مخهن قليل فلما رأى أبو معبد اللبن عجب وقال من أين لك هذا اللبن يا أم معبد والشاة عازب حيال ولا حلوب في البيت؟ قالت لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا قال صفيه لي يا أم معبد.
فقالت أم معبد “رأيت رجلا ظاهر الوضاءة، مبتلج، أي “مشرق” الوجه حسن الخلق، لم تعبه ثجلة، أي “ضخامة البطن” ولم تزر به صعلة، أي “لم يشنه صغر الرأس” وسيم قسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف أي “طويل شعر الأجفان” وفي صوته صحل أي “رخيم الصوت” أحور أكحل، أرج أقرن شديد سواد الشعر، في عنقه سطح أي “ارتفاع وطول” وفي لحيته كثافة، إذا صمت فعليه الوقار وإذا تكلم سما وعلاه البهاء، وكأن منطقه خرزات نظم يتحدرن، حلو المنطق فصل لا نذر ولا هذر أي “لا عي فيه ولا ثرثرة في كلامه” أجهر الناس وأجملهم من بعيد، وأحلاهم وأحسنهم من قريب، ربعة أي “وسط مابين الطول والقصر” لا تشنؤه، أي “تبغضه” من طول ولا تقتحمه عين، أي “تحتقره” من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرا، وأحسنهم قدرا له رفقاء يخصون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر تبادروا إلى أمره، محفود، أي “يسرع أصحابه في طاعته” محشود، أي “يحتشد الناس حوله” لا عابث ولا منفذ، أي “غير مخزف في الكلام”
فهذا وصف امرأة للرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، مر بها عليه الصلاة والسلام عابرا يستقي منها الماء واللبن، لمحته عينيها فجاشت لزوجها عند رجوعه آخر النهار بهذه الكلمات التي يعجز كثير من بني الإنسان عن فهمها، فضلا عن قول مثلها لو رأي الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن المرأة عبرت بما أحست ولمست من كمال جماله، وحسن مظهره، وبهجة طلعته صلى الله عليه وسلم، فقال أبو معبد هو والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكة ولقد هممت أن أصحبه ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا، فأتت أم معبد المدينة بعد ذلك بما شاء الله ومعها ابن صغير قد بلغ السعي فمر بالمدينة على مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكلم الناس على المنبر .
فانطلق إلى أمه يشتد فقال لها يا أمتاه إني رأيت اليوم الرجل المبارك فقالت له يا بني ويحك هو رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وأسلمت أم معبد وعاشت أم معبد بعد وفاة النبي، صلى الله عليه وسلم إلى خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكان الصحابة يقدرونها ويعرفون لها فضلها.