الدكرورى يكتب عن الأم نبع الحنان ” جزء 8″
بقلم / محمـــد الدكـــرورى
الأم نبع الحنان ” جزء 8″
ونكمل الجزء الثامن مع الأم نبع الحنان، وفي الآية الأخرى كما جاء فى سورة لقمان ” ووصينا الإنسان بوالدية حملته أمه وهنا على وهن وفصاله فى عامين أن اشكر لى ولوالديك إلى المصير ” وقال قتادة في معنى وهنا على وهن، أى جهدا على جهد، ويا من وارى الثرى قرة عينيه ما زال أمامك خير كثير، فكم من الناس من بره بوالديه الميتين أعظم بكثير من بر بعضهم بالأحياء، والله المستعان، أصلح حالك وأكثر من الدعاء لهما ففي صحيح مسلم مرفوعا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث، إلا من صدقة جارية، أو علمٍ ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له” فتصدق عنهما، وصِل رحمهما وصديقهما، أنفذ عهدهما، فعند الإمام أحمد وأبي داود أن رجلا قال يا رسول الله هل بقى من بر أبويَّ شيء أبرهما به بعد وفاتهما؟
قال صلى الله عليه وسلم “نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما” فإن برَّك بوالديك عبادة عظيمة تقربك إلى مولاك، إنها سبب للبركة والتوفيق، إنها سبب لتيسير الأمور، إنها سبب لحفظك وسلامتك، إنها من أعظم أسباب بر ذريتك لك، وعموما فهي توفيق فى الدنيا والآخرة، فإن الحديث عن بر الوالدين حديث مشوق، وفيه ذكرى للمتقين، وتنبيه للمقصرين والغافلين، فالإحسان الي الوالدين عبادة عظيمة، وقد قرنها الله تعالى مع عبادته، وهذا يدل على فضلهما العظيم، فقد جعل الله للوالدين المكانة العالية، ورفع من شأنهما، فمن الواجب علينا برهما والإحسان إليهما، وأن نترحم عليهما كما ربونا صغارا، فالأم هذه الكلمة الصغيرة ذات الحروف القليلة.
ولكنها تحتوى على أكبر معاني الحب والعطاء والحنان والتضحية، الأم هى الأنهار التي لا تنضب ولا تجف ولا تتعب، متدفقة دائما بالكثير من العطف الذي لا ينتهي، وهي الصدر الحنون الذي تلقي عليه رأسك وتشكو إليه همومك ومتاعبك، الأم هي التى تعطى ولا تنتظر أن تأخذ مقابل العطاء، وهي التى مهما حاولت أن تفعل وتقدم لها فلن تستطيع أن ترد جميلها عليك ولو بقدر ذرة صغيرة، فهي سبب وجودك على هذه الحياة، وهي سبب نجاحك، تعطيك من دمها وصحتها لتكبر وتنشأ صحيحا سليما، هي عونك في الدنيا، وهي التي تدخلك الجنة، وقد روى مسلم في صحيحه عن أبى هريرة رضى الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” رغم أنفه ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه” قيل من يا رسول الله قال ” من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كلاهما ثم لم يدخل الجنة”
فإن الأم لطيفة المعشر، تتحمل الجفوة وخشونة القول، تعفو وتصفح قبل أن يُطلب منها العفو أو الصفح، حملت جنينها في بطنها تسعة أشهر، يزيدها بنموه ضعفا، ويحمّلها فوق ما تطيق عناء، وهي ضعيفة الجسم، واهنة القوى، تقاسي مرارة القيء والوحام، يتقاذفها تمازج من السرور والفرح لا يحس به إلا الأمهات ، تحمل جنينها وهنا على وهن، تفرح بحركته، وتقلق بسكونه، ثم تأتي ساعة خروجه فتعانى ما تعانى من مخاضها، حتى تكاد تيأس من حياتها، ثم لا يكاد الجنين يخرج في بعض الأحايين غلا قسرا وإرغاما، فيمزق اللحم، أو تبقر البطن، فإذا ما أبصرته إلى جانبها نسيت آلامها، وكأن شيئا لم يكن إذا انقضى، ثم تعلق آمالها عليه، فترى فيه بهجة الحياة وسرورها، ثم تنصرف إلى خدمته في ليلها ونهارها، تغذيه بصحتها، وتنميه بهزالها.
تخاف عليه رقة النسيم وطنين الذباب، وتؤثره على نفسها بالغذاء والنوم والراحة، تقاسي في إرضاعه وفطامه وتربيته ما ينسيها آلام حملها ومخاضها، فسبحان الله الذى جعل قلب الأم آية من آياته, وأسكن فيها معان من سره، فهي يد لا تعرف إلا العطاء, وقلب لا يعرف إلا الحب والصفح والغفران, ووجه لا يعرف إلا الإقبال والابتسام, فهى سهولة كل صعب, ويسر كل عسير، فإن الأم إنها مذيب الهم الذي يحيل حياتك إلى لطف خالص, ومزيل الغم الذي يبعث فيك نسائم الأمل وينفث فيك البهجة الحياة, إنها الترياق الذى يعالج سموم الدنيا ويطبب علتك، وإن أيادي الأم التي طالما مدت بكل أسباب الرحمة والعطاء, آن لك أيها الابن اليوم أن تنحني وتقبلها, وتلك الهامة التي طالما طاولت عنان السماء لتسمو بك وترقى آن لك أن تتوجها بكل أسباب البر.