الدكرورى يكتب عن الأم نبع الحنان ” جزء 5″
بقلم / محمـــد الدكـــرورى
الأم نبع الحنان ” جزء 5″
ونكمل الجزء الخامس مع الأم نبع الحنان، فكم من دعوات لك تلجلجت وأنت لا تدرى، فكان مُناها أن تسعد في سمائك, وغايتها أن توفق، فهى التى تعطيك كل شيء ولا تطلب منك أجرا, وتبذل لك كل وسعها ولا تنتظر منك شكرا، ولأجل كل هذا، فالبر بالأم مفخرة الرجال، وشيمة الشرفاء، وقبل ذلك كله هو خلق من خلق الأنبياء, فقال تعالى عن نبيه يحيى عليه السلام كما جاء فى سورة مريم ” وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا” وقال تعالى عن نبيه عيسى عليه السلام كما جاء فى سورة مريم ” وبرا بوالدتى ولم يجعلنى جبارا شقيا” فإن البر بالأم يتأكد يوم يتأكد إذا تقضى شبابها, وعلا مشيبها, ورق عظمها، وأحدودب ظهرها، وارتعشت أطرافها, وزارتها أسقامها، في هذه الحال من العمر لا تنتظر صاحبة المعروف، والجميل من ولدها، إلا قلبا رحيما.
ولسانا رقيقا, ويدا حانية، فطوبى لمن أحسن إلى أمه في كبرها, طوبى لمن سعى في رضاها، فلم تخرج من الدنيا إلا وهي عنه راضية، فيا أيها البار بأمه وكلنا نطمع أن نكون كذلك تمثل قول الحق سبحانه وتعالى ” واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ” فتخلق بالذل بين يديها بقولك وفعلك، لا تدعها باسمها، بل نادها بلفظ الأم، فهو أحب إلى قلبها، لا تجلس قبلها، ولا تمشِ أمامها، قابلها بوجه طليق وابتسامة وبشاشة، تشرف بخدمتها، وتحسس حاجاتها، إن طلبت فبادر أمرها, وإن سقمت فقم عند رأسها، أبهج خاطرها بكثرة الدعاء لها، راع مشاعرها، ولا تفتأ أن تدخل السرور والأنس على قلبها, قدم لها الهدية، وزف إليها بالبشائر, واستشعر وأنت تقبل وتعطف على أبنائك عطف أمك وحنانها بك, وردد في صبح ومساء كما علمنا الله تعالى كما جاء فى سورة الإسراء.
” رب ارحمهما كما ربيانى صغيرا” فيا أيها البار بأمه إن كانت غاليتك ممن قضت نحبها، ومضت إلى ربها، فأكثر من الدعاء والاستغفار لها, وجدد برك بها بكثرة الصدقة عنها, وصلة أقاربك من جهتها, وصلاحك في نفسك من أعظم البر الذي تقدمه لوالديك بعد رحيلهما, فقد جاء رجل إلى النبى الكريم محمد صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله هل بقي من بر أبوى شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال صلى الله عليه وسلم نعم الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بها، وإكرام صديقهما” فاسمعوا إلى هذا الخبر العجيب الذي حدث لرجل صالح عابد انقطع للصلاة والتعبد، في صحيح مسلم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم “لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى ابن مريم، وصاحب جريج.
وكان جريج رجلا عابدا، فاتخذ صومعة، فكان فيها، فأتته أمه وهو يصلي، فقالت يا جريج، فقال يا رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت يا جريج، فقال يا رب، أمي وصلاتى، فأقبل على صلاته، فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت يا جريج، فقال أى رب، أمي وصلاتى، فأقبل على صلاته، فقالت اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات، فتذاكر بنو إسرائيل جريجا وعبادته، وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها، فقالت إن شئتم لأفتننه لكم، قال فتعرضت له فلم يلتفت إليها، فأتت راعيا كان يأوى إلى صومعته فأمكنته من نفسها، فوقع عليها، فحملت، فلما ولدت، قالت هو من جريج، فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه، فقال ما شأنكم؟ قالوا زنيت بهذه البغية.
فولدت منك، فقال أين الصبي؟ فجاؤوا به، فقال دعوني حتى أصلي، فصلى، فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه، وقال يا غلام من أبوك؟ قال فلان الراعي، قال فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به، وقالوا نبني لك صومعتك من ذهب، قال لا، أعيدوها من طين كما كانت، ففعلوا” ومعنى الحديث أنه لقد أجاب الله تعالى دعوة أمه، وكان الأولى إجابته أمه لأنها من أوجب الواجبات، وهنا قال الإمام النووى أن صلاة النفل والاستمرار فيها تطوع لا واجب، وإجابة الأم وبرها واجب، وعقوقها حرام، بل وصَّى الله بالإحسان إلى الوالدين ولو كانا مشركين فقال تعالى كما جاء فى سورة لقمان ” وإن جاهداك على أن تشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما فى الدنيا معروفا ” فما بالك بحقهما عليك وهما مؤمنان؟