الدكرورى يكتب عن نبي الله نوح علية السلام ” جزء 8″
بقلم / محمـــد الدكـــرورى
نبي الله نوح علية السلام ” جزء 8″
ونكمل الجزء الثامن مع نبي الله نوح علية السلام، وسخروا منه، كما في قوله تعالى فى سورة هود ” ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه ” فكان هذا بعض ما فعله وقاله الملأ، ولكن لماذا الملأ هم أعداء الرسل والرسالات؟ والجواب قاله المفسرون وهو أن الملأ هم الكبراء والسادة الذين جعلوا أنفسهم أضداد الأنبياء، وهم الذين يملؤون صدور المجالس، وتمتلئ القلوب من هيبتهم، وتمتلئ الأبصار من رؤيتهم، وتتوجه العيون في المحافل إليهم، وهذه الصفات لا تحصل إلا في الرؤساء، وذلك يدل على أن المراد من الملأ الرؤساء والأكابر، ولما اتهموه بالضلال قال ” ليس بى ضلالة ” وما أعظم هذا الرد، وما أبلغه، ويقول الرازي، فكان هذا أبلغ في عموم السلب، ثم إنه ولما نفى عن نفسه العيب الذي وصفوه به، ووصف نفسه بأشرف الصفات وأجلها.
وهو كونه رسولا إلى الخلق من رب العالمين، فذكر المقصود من الرسالة، وهو التبليغ والنصيحة فقال ” أبلغكم رسالات ربى وأنصح لكم” والفرق بين تبليغ الرسالة وبين النصيحة، هو أن تبليغ الرسالة معناه أن يعرفهم أنواع تكاليف الله وأقسام أوامره ونواهيه، وأما النصيحة، فهي أن يرغبه في الطاعة، ويحذره من المعصية، ويسعى في تقرير ذلك بالترغيب والترهيب بأبلغ الوجوه، وهؤلاء الملأ من علية القوم وصفوة المجتمع، أصحاب المصالح، أعداء الإصلاح، اتهموا نبى الله نوح عليه السلام بأنه ما اتبعه إلا الفقراء والعوام وأصحاب الحرف، وطلبوا منه أن يطردهم، ليكون المجلس مجلس الملأ، فهم الذين يملؤون القلوب هيبة، والمجالس أبهة، ولا يليق أن يجالسهم الأراذل، ويقول الرازي، طعنوا في نبوته بثلاثة أنواع من الشبهات.
فالأولى أنه بشر، والثانية كونه ما اتبعه إلا أراذل من القوم كالحياكة وأهل الصنائع، وقالوا ولو كنت صادقا، لاتبعك الأكياس من الناس والأشراف منهم، ونظيره فقال تعالى فى سورة الشعراء ” قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرزلون ” وأما عن الشبهة الثالثة وهى لا نرى لكم علينا من فضل لا في العقل، ولا في رعاية المصالح العاجلة، ولا في قوة الجدل، وأما الرد على هذه الاتهامات وتلك الشبهات، فقد سجله القرآن الكريم، وكان لما دعا نوح قومه إلى عبادة الله وحده، وخوفهم عذابه وانتقامه، واتهموه بالضلال، فنفى عن نفسه الضلال، وأخبرهم أنه مُبلغ عن الله تعالى، وأنه ناصح لهم، ثم نتأمل الترتيب في قوله تعالى وهو يخاطبهم فى سورة الأعراف ” أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولعلكم ترحمون” ويقول الرازي رحمه الله.
لقد بين الله تعالى ما لأجله يبعث الرسول، فقال تعالى ” لينذركم ” وما لأجله ينذر، فقال ” وليتقوا ” وما لأجله يتقون، فقال تعالى ” ولعلكم ترحمون ” وهذا الترتيب في غاية الحسن، فإن المقصود من البعثة هو الإنذار، والمقصود من الإنذار التقوى عن كل ما لا ينبغي، والمقصود من التقوى الفوز بالرحمة في دار الآخرة، ولقد كانت الدعوة بالليل والنهار، والسر والجهار، ولعله فهم ما لهذا الأسلوب من أثر على النفوس البشرية إذ من الناس من يكون وعيه وإدراكه في النهار أكثر من الليل، ومنهم من يكون على العكس، فالصنف الأول دعاه بالنهار، والآخر دعاه بالليل، كما أنه لاحظ اختلاف طبائع الناس، فوجد أن منهم من إذا وُجهت له الدعوة جهرا أمام الناس، تأخذه العزة والأَنفة، ولا يمتثل للأمر المدعو إليه تكبرا أو تعاليا، وصلفا وغرورا.
وخوفا من معايرة أهله وعشيرته، فهذا إذا دعي سرا، فإنه قد يمتثل إليه، وقد يخفيه سرا فترة من الزمن، وكان عليه السلام يوجه الدعوة جهرا لمن يلمس فيه الشجاعة والاحترام وعدم المبالاة والخوف من أحد، طالما اقتنع بصحة ما أقدم عليه، وإن إقامة الأدلة على قدرة الله تعالى في الخلق، والتنبيه على كثرة نعمه وآلائه، وذلك في قوله تعالى فى سوة نوح ” وقد خلقكم أطوارا” وكذلك الترغيب في الطاعة وبيان ثوابها العاجل والآجل في الدنيا والآخرة، وذلك في قوله تعالى فى سورة نوح ” فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا، ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا” ولقد كان هناك إصرار عجيب ورغبة قوية من نبى الله نوح عليه السلام مع قومه، في هدايتهم، إلا أنهم تمادوا في غيهم وطغيانهم، واشتد عليه منهم البلاء.