الدكرورى يكتب عن موقف الشرع من الجدال ” جزء 2″
بقلم / محمـــد الدكـــرورى
موقف الشرع من الجدال ” جزء 2″
ونكمل الجزء الثاني مع موقف الشرع من الجدال، فقد رغب النبى صلى الله عليه وسلم فى تركه، لانه من دواعى الفطرة فيثقل على النفس تركه، وكذلك جاء الترغيب فى تركه من باب درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، ولأنه يعلم أنه صنو الضلال والإنحراف، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم “أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا” وقدم النبى صلى الله عليه وسلم الوقاية على العلاج، واستأصل الداء قبل نشؤه، وحل المشكلة قبل وقوعها، وقد قيل أن عمر بن عبدالعزيز، رحمه الله، قال ” من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر التنقل ” وقال النووى رحمه الله، قال بعضهم ” ما رأيت شيئا أذهب للدين، ولا أنقص للمروءة، ولا أضيع للذة، ولا أثقل للقلب من الخصومة ” وقال أيضا الأوزاعي ” إذا أراد الله بقوم شرا ألزمهم الجدل.
ومنعهم العمل ” وقال أيضا الصمعي ” سمعت أعرابيا يقول من لاحى الرجال وماراهم قلت كرامته، ومن أكثر من شيء عُرف به” وقال عبدالله بن حسين بن علي رضي الله عنهم ” المراء رائد الغضب ، فأخزى الله عقلا يأتيك بالغضب ” وقد جعل النبى صلى الله عليه وسلم الجدال علامة الضلال بعد الهداية، ومؤشر الإنحراف عن الجادة، وذلك لما يترتب عليه من آثار موبقة ونتائج مهلكة، وقد أخبر النبى صلى الله عليه وسلم، أن ذلك الرجل التى لا تهدأ عنده غريزة الجدال، بل تظل ثائرة لأتفه الأمور ويشتد في خصومته، ويجادل حتى يجدل خصمه ويقهره بأنه والعياذ بالله الأبغض الى الله، فعن السيده عائشه رضى الله عنها قالت أن النبى صلى الله عليه وسلم، قال ” إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم ” وقد توعد النبى صلى الله عليه وسلم.
ذلك الصنف الذى يصر على الجدال فى الباطل رغم علمه به، فقال صلى الله عليه وسلم “ومن خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع ” والجدال يقصد به المحاجة أو المناظرة واستعراض الاراء المدعومة بالحجج والبراهين التى تدعم رأى أحد المتجادلين، أو تدعم وجهة نظره على نظيره الاخر، وقد جاء ذكره فى القرآن الكريم تارة بلفظ الجدال وأخرى بلفظ التحاج وثالثة بلفظ المراء، والمتأمل لمصدرى التشريع الإسلامى يجد أن النصوص تتعامل معه تارة على أنه مباح ومحبوب وأخرى على أنه مذموم ومكروه، والأصل فى الجدال أنه مذموم لورود أكثر الايات فى ذمه، ويمكن أن نستخلص سمات وشروط الجدال المباح وهى أن يرجى من المجادل عدم العناد واتباع الهوى، بل تبدوا عليه أمارات التجرد وعلامات التعقل.
أما المعاندين المكابرين فجدالهم مذموم محظور، وقد كان أبو قلابة يقول ” لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تجادلوهم ؟ فإني لا آمن أن يغمسوكم في الضلالة، أو يلبسوا عليكم في الدين بعض ما لبس عليهم ” وجاء رجل إلى الحسن فقال يا أبا سعيد، تعال حتى أخاصمك في الدين” فقال الحسن ” أما أنا فقد أبصرت ديني، فإن كنت أضللت دينك فالتمسه ” وكان عمران القصير يقول ” إياكم والمنازعة والخصومة، وإياكم وهؤلاء الذين يقولون ” أرأيت أرأيت ” ويجب أن يكون الجدال بالتى هى أحسن من الرفق ولين الجانب وعدم التعالى والغرور، وإلا كان مذموما، لأنه سيؤل الى مفاسد عظيمة وأضرار بالغة، أن يكون عن علم وبصيرة بموضوع الجدال، وإلا كان ممقوتا وكان شره مستطيرا أن يكون موضوعه ذو قيمة.
وأن يبتغى من طرحه للحوار جدوى وفائدة عامة، كدفع ضرر شديد أو استجلاب خير وفير، وقال صلى الله عليه وسلم “جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم” ويجب أن يبحث فى جوهر الأمور ولا يتطرق الى ثناياها، وأن يكون فى صلب الموضوع ولا يحيد الى النقاط الفرعية كما قال تعالى “إلا مراء ظاهرا” وهذا هو الحوار البناء الذى يخاطب العقل ويلتمس الإقناع، ويتمثل فى الدعوة الى الله وائتلاف قلوب العباد وترغيبهم فى الخير وفضائلة، وتنفيرهم من الشر وغوائله، والأمر بالمعروف بمعروف، والنهى عن المنكر بلا منكر، والحض على فعل الواجبات واجتناب المنهيات، ويشيع هذا النوع فى الأوساط العلمية، بين العلماء بعضهم البعض، وبين الدعاة وبين أهل الديان الأخرى، ومن سمات هذا النوع أن صاحبه يبحث دائما عن نقاط الاتفاق ويبنى عليها.