الدكرورى يكتب عن المنّ والسلوي في رحلة التيه ” جزء 6″
بقلم / محمـــد الدكـــرورى
ونكمل الجزء السادس مع المنّ والسلوي في رحلة التيه، وإن المعنى الحقيقي للآية هو أن الله تعالى أمر نبيه موسى عليه السلام بضرب حجر بعصاة فانفجرت منه بالضرب اثنتا عشرة عينا،
والذين تيسر لهم زيارة الأماكن الجبلية يعرفون أنه عندما ينصهر الجليد فوق قمم الجبال يرتفع مستوى الماء الباطني الجاري تحت وجه الأرض، ويمكن أن يخرج متدفقا بمجرد الضرب من عصا، ومثل هذه العيون توجد أيضا في البرارى،
وتحدث طبقا لسنن كونية معروفة، وتكثر مثل هذه المواقع في صحراء الجزيرة العربية حيث الواحات ذات عيون الماء والنخيل، ولقد وجّه الله تعالى موسى بالوحي إلى موضع كهذا، وكان الماء قريبا من سطح الأرض، وكان عليه حجر، فأمره الله تعالى أن يحركه بالعصا ليتدفق الماء من ورائه.
ففعل، ليست المعجزة أن الماء خرج من الحجر، كما ليست المعجزة أن الماء تولد فجأة في باطن الحجر وخرج منه، وإنما المعجزة أن الله تعالى دله بالوحي على وجود الماء وراء حجر معين يسد جريانه، ولا مبرر لنكران مثل هذه المعجزة، كما لا داعي أيضا لتصويرها بصورة مخالفة لسنة الله في الكون
، ويبدو أن الحجر لم يكن كبيرا ولا عميقا فتشقق بالضرب بالعصا، وخرج الماء من اثني عشر موضعا من هذه الشقوق، ومن خبر هذه الجبال يعرف أن العديد من العيون تتدفق من موضع واحد أحيانا ويبدو أن الغرض من عدد اثني عشر
، أن بني إسرائيل كانوا قبائل عديدة كثيرة الشجار فيما بينها، وهكذا هيأ الله تعالى لكل منها موضع شرب على حدة، وقوله تعالى كما جاء فى سورة البقرة ” قد علم كل أناس مشربهم”
هو لا يعني أن الله تعالى عين لكل قبيلة موضع شرب لهم، وإنما القوم أنفسهم اتخذوا مواضع شرب لهم، فالماء كان يتدفق بوفرة ومن مواضع متفرقة ليتيسر لبني إسرائيل الحصول على كفايتهم منه بدون مشقة
فلا يقع بينهم خصومة أو شجار، ولقد هيأ الله تعالى لكم في كل موضع كفايتكم من الطعام والشراب، فاشكروا صنيعه وتوكلوا عليه ولا تتكالبوا على الأسباب، فإن كل فساد في الدنيا يرجع إلى الاعتماد على الأسباب، فيظن الإنسان أنه إن لم يجد أرضا كذا أو مسكنا كذا أو دابة كذا لأصابه الضرر والخسران، فيتخاصم مع أخيه وتستمر سلسلة لا تنتهي من الفساد والفتنة، ويقول الله تعالى هنا لبني إسرائيل انظروا كيف حررناكم من كل هذه المتاعب من بحث عن طعام وشراب وغير ذلك.
فإذا كنا نسد كل حاجاتكم فلا داعي للفساد والتباغض والشجار مع الجار، ويجب ألا تفسدوا على الأقل في هذه الأيام، كما يجب أن تتجنبوا الفساد في المستقبل تذكرا لهذه النعم، ولقد عاش بنو إسرائيل على طعام المن والسلوى لمدة طويلة، ومن حين لآخر كانوا يدخلون بعض المدن ويمكثون فيها للتمتع بما فيها من طعام وشراب،
ولكنهم لم يستطيعوا الصبر على طعام واحد في البراري، وإن لم يكن واحدا بل كان متنوعا، كانوا معتادين على العيش في مدن مصر عيشة مدنية، مولعين بالمشويات والمقليات وغيرها من لذائذ الطعام الذي يأكله أهل الحضر، فتبرموا من أكل الأغذية البرية، وهكذا لم يقدروا الحكمة وراء هذه المعيشة والأغذية، وبلغ بهم الضيق أن قالوا لنبى الله موسى عليه السلام لن نصبر عن طعام واحد.
إذا كنت تصبر أنت عليه ولا ترى حاجة إلى استبداله، فعلى الأقل ادعُ الله لأجلنا كي يخرج لنا من الأرض أنواع الخضروات والبقول، أي يسمح لنا بالإقامة والاستقرار في مكان نستطيع فيه الزراعة وإنتاج هذه المحاصيل من غلال وبقول وخضار،
فأجابهم الله تعالى أتطلبون الطعام الأقل نفعا لكم وتتخلون عن الأجود والأنسب؟ ولقد اختلف المفسرون في معنى خير وأدنى، فقال البعض أن المراد من خير، هو اللحم ومن أدنى، هو الخضار، ولكن هذا خطأ فالخضار خير واللحم أيضا خير، ولم يأمر الله تعالى في الشرع أنه إذا وُجد طعام جيد فلا تأكلوا غيره، فالنفس البشرية أحيانا تشتهي العدس مع تيسر لحم طير، وليس في هذا ما يثير سخط الله.