الدكرورى يكتب عن الحضارة ومراحل التطور الإنساني ” جزء 2″
بقلم / محمـــد الدكـــرورى
الحضارة ومراحل التطور الإنساني ” جزء 2″
ونكمل الجزء الثاني مع الحضارة ومراحل التطور الإنساني، وإن الإنسان بكل المقاييس هو أساس العملية الحضارية، وإن حضارتنا الإسلامية ليست نشازا في هذا المجال، بل لعلها من أكثر الحضارات اهتماما بدور الإنسان في التاريخ، ولهذا فهِي لا تعفيه من أية مسئولية تحت أي شعار، كالقول بخطيئة آدم وما يتبعه من تحمل المسيح لآلام البشر، كما أنها لا تجعل المسئولية الجماعية بديلا عن المسئولية الفردية، ولقد انتقلت الحضارة الإسلامية بعلومها وآدابها ومصنوعاتها، ومحاصيلها الزراعية وبعض تقاليدها ومظاهرها إلى أوروبا بوسائط عديدة ومن خلال ميادين واسعة، تم عبر اللقاء، وكثرة الاحتكاك، فكان النقل والاقتباس، ومن أهم تلك الوسائط والميادين الميدان الاقتصادي، فقد كانت الزراعة من الأمور الاقتصادية التي ازداد اهتمام العرب بها بعد الإسلام.
وذلك نتيجة لدعوة الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم إلى العمل بصفة عامة، ولقوله صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالأرض والعمل الزراعي ” من أحيا أرضا مواتا، فهي له” وفي العهد الأموي تم إقامة السدود والجسور، وتجفيف المستنقعات، واستصلاح الأراضي، والاهتمام بالري ومشروعاته ووسائله، وفي العهد العباسي أنشئت إدارة حكومية تختص بالري عُرفت باسم ديوان الماء، وعظم أمر هذه الإدارة في المناطق الزراعية، مثل العراق ومصر، ولقد كان تقدم الزراعة عظيما في الأندلس حتى صارت حدائقها وحقولها ميدانا تتعلم منه أوروبا بعض الطرق في الزراعة والري، ومن ذلك ما أدخله العرب إلى الأندلس من نظام المدرجات في الجبال والمرتفعات، ولا تزال آثارهم باقية إلى اليوم من جسور، وقناطر أقامتها العرب.
وكما نقلوا كثيرا من نباتات الشرق إلى أوروبا، حتى إن اسم الرمان باللغة الفرنجية مأخوذ من اسم غرناطة، المدينة التي زرع لأول مرة فيها بعد نقله من الشام، وكثير من النباتات دخلت أوروبا عن طريق الأندلسيين، كالأرز، وقصب السكر، والمشمش، وكما أن كثيرا من الأسماء العربية المتعلقة بالزراعة اقتبسها الغرب من عرب الأندلس، كالناعورة والسكر، والأرز، ولا يزال الإسبانيون يطلقون على السد، والبركة، والجب، والساقية، والوادي أسماء محرفة عن العربية، وأن العرب أمدوا الغرب بأنواع من نباتاتهم المفيدة، مثل الخيار، والقرع، والبطيخ، والسبانخ، والليمون، والخوخ، والكستناء، وقصب السكر، وبعض أنواع الورود، كما أمدوا الغرب بطرق الري المختلفة، وفنية استعمال الماء المتعددة التي برع فيها العرب خاصة كل البراعة.
وقد أشارت كثير من المصادر التاريخية إلى أن العرب المسلمين قد برعوا باستعمال النواعير وغيرها من الطرق لرفع المياه من الأنهار والآبار، إذ استعمل المسلمون دواليب الماء وهى النواعير والآلات المشابهة في كل مكان لرفع الماء من الأنهار، ونتيجة لاهتمام العرب المسلمين بالزراعة ظهر اهتمامهم بعلم النبات، فترجموا الكتب النبطية وغيرها من الكتب، واقتبسوا منها ما رأوه معقولا مفيدا فحسنوا بذلك زراعة أراضيهم وأراضي الأقاليم التي فتحوها، وكما أدخلوا في الطب نباتات غير معروفة عند اليونان، وأنشأ عبدالرحمن الأول ملك قرطبة حديقة نباتية جمع فيها أصناف النباتات المختلفة من جميع البلاد مشرقها ومغربها، بل إن غرناطة كانت تشمل في القرن العاشر الميلادي حديقة عظيمة للنباتات، وهكذا شعّت الحضارة الإسلامية في مجالاتها.
الاقتصادية والزراعية على حضارة الغرب، وأمدتها بكثير من الإصلاحات والخبرات والمعارف المتميزة، فقد أقام الإسلام حضارة بلغت بالقيم الإنسانية أوج كمالها، ورسمت للبشرية طريق المحبة والإخاء والعدل والمساواة، من خلال منظومة أخلاقية وحضارية من شأنها أن تجمع ولا تفرق، وتبني ولا تهدم ليتحقق الأمن والسلام والخير للناس جميعا، وقد استمدت الحضارة الإسلامية قيمها الإنسانية من القرآن الكريم والسنة النبوية، فهما حافلان بالقيم الإنسانية العظيمة، فالإنسان مكرّم بتكريم الله له، بغض النظر عن عرقه، أو لونه، أو دينه، فيقول عز وجل ” ولقد كرمنا بنى آدم” ويقول النبى صلى الله عليه وسلم ” كلكم لآدم وآدم من تراب” وحينما مرّت على النبى صلى الله عليه وسلم جنازة، فقام لها صلى الله عليه وسلم، فقيل له إنها جنازة يهودي، فقال صلى الله عليه وسلم ” أليست نفسا؟”