سر التكرار فى القرآن الكريم “جزء 3”
بقلم / محمـــد الدكـــرورى
ونكمل الجزء الثالث مع سر التكرار فى القرآن الكريم، وهذا أمر يُشعر بتنافيه مع الغرض المسوقة من أجله، وإن، وهو التوكيد، لهذا اقتضت البلاغة إعادتها لتلحظ النسبة بين الركنين على ما حقها أن تكون عليه من التوكيد، على أن هناك وظيفة أخرى هي، لو أن قارئا تلا هاتين الآيتين دون أن يكرر فيهما، إن، ثم تلاهما بتكرارها مرة أخرى لظهر له الفرق بين الحالتين، وهو قلق وضعف في الأولى، وتناسق وقوة في الثانية، ويقول ابن الأثير رائيا هذا الرأي، فيقول إذا وردت، إن، وكان بين اسمها وخبرها فسحة طويلة من الكلام، فإعادة، إن، أحسن في حكم البلاغة والفصاحة كالذي تقدم من الآيات، وأما عن تكرار الكلمة مع أختها، ومن أمثلتها قوله تعالى.
“أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون” فقد تكررت، هم، مرتين، فالأولى مبتدأ وخبرها الأخسرون، والثانية ضمير فصل جيء به لتأكيد النسبة بين الطرفين وهي، هُم الأولى بالأخسرية، وكذلك قوله تعالى “أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون” فتكررت هنا، أولئك، ثلاث مرات، ولم تجد لهذه الكلمة المكررة مع ما جاورها إلا حسنا وروعة، فالأولى والثانية، تسجلان حكما عاما على منكري البعث، وهو كفرهم بربهم، وكون الأغلال في أعناقهم، والثالثة، هو بيان لمصيرهم المهين، ودخولهم النار، ومصاحبتهم لها على وجه الخلود الذي لا يعقبه خروج منها، ولو أسقطت.
كلمة أَولئك، من الموضعين الثاني والثالث لرك المعنى، واضطرب، فتصبح الواو الداخلة على “الأغلال في أعناقهم” واو حال، وتصبح الواو الداخلة على “أصحاب النار هم فيها خالدون” عاطفة عطفا يرك معه المعنى، لذلك حسن موضع التكرار في الآية، لما فيه من صحة المعنى وتقويته، وتأكيد النسبة في المواضع الثلاثة للتسجيل عليهم بسوء المصير، وأما عن الفائدة في تكرار قوله تعالى فى سورة الرحمن “فبأى آلاء ربكما تكذبان” وذلك التكرار هو لتقرير النعم وتأكيد التذكير بها، وقد قال ابن قتيبة، إن من مذاهب العرب التكرار للتوكيد والإفهام، وكما أن من مذاهبهم الاختصار للتخفيف والإيجاز، لأن افتنان المتكلم والخطيب في الفنون أحسن من اقتصاره في المقام على فن واحد.
وقد يقول القائل منهم، والله لا أفعله، ثم والله لا أفعله، وهذا إذا أراد التوكيد وحسم الأطماع مِن أن يفعله، أو كما يقول والله أفعله، بإضمار لفظ لا، وذلك إذا أراد الاختصار، وقد قال ابن قتيبة، فلما عدد الله سبحانه وتعالى في هذه السورة نعماءه، وأذكر عباده آلاءه ونبئهم على قدرته، جعل كل كلمه من ذلك فاصله بين كل نعمتين، ليفهمهم النعم ويقررهم بها، وقال القرطبي رحمه الله، وأما وجه التكرار، كقول الحق سبحانه وتعالى، فى سورة الكافرون ” قل يا أيها الكافرون” فقد قيل إنه للتأكيد في قطع أطماعهم، وهذا كما تقول والله لا أفعل كذا، ثم والله لا أفعله، وقال أكثر أهل المعاني، لقد نزل القرآن الكريم، بلسان العرب، وكان من مذاهبهم التكرار، إرادة التأكيد والإفهام.
وكما أن من مذاهبهم الاختصار إرادة التخفيف والإيجاز، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في التعليق على تكرار قصة نبى الله موسى مع قومه، وقد ذكر الله تعالى هذه القصة في عدة مواضع من القرآن الكريم، وهو سبحانه يبين في كل موضع منها من الاعتبار والاستدلال نوعا غير النوع الآخر ، كما يسمى الله ورسوله وكتابه بأسماء متعددة، وكل اسم يدل على معنى لم يدل عليه الاسم الآخر، وليس في هذا تكرار، بل فيه تنويع الآيات مثل أسماء النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم إذا قيل محمد، وأحمد، والحاشر، والعاقب، والمقفى ، ونبي الرحمة، ونبي التوبة، ونبي الملحمة، وفي كل اسم دلالة على معنى ليس في الاسم الآخر، وإن كانت الذات واحدة فالصفات متنوعة.