الثأر والقصاص في ميزان الحق ” جزء 10″
بقلم / محمـــد الدكـــرورى
ونكمل الجزء العاشر مع الثأر والقصاص في ميزان الحق، وتعتبر هذه الظاهرة من العادات السيئة المتأصلة في الصعيد، والإقدام على الأخذ بالثأر يكاد يكون بمثابة عقيدة راسخة داخل وجدان كل فرد من أفراد الأسرة الصعيدية مهما بلغت درجته العلمية أو الثقافية، ثلاثية العُرف والعادات والتقاليد هي الدافعة لاستمرار هذه الجريمة، ولقد أرجع البعض بداية الثأر في الصعيد، حينما توافدت القبائل العربية أثناء الفتح الإسلامي لمصر من شبه الجزيرة العربية وبلاد المغرب العربي، ومنها قبائل قنا من العرب والأشراف والهوارة، ونقلت معها هذا الموروث من أيام الجاهلية بجميع معتقداته، وتدين ثقافة الثأر بالكثير لهذه الحكايات المجهولة بالمعنى الواسع لمفهوم الحكاية.
إلا أن ثقافة الثأر ترتكز أيضا على تراث عام له بعده التاريخي الممتد في القدم، وله حياته الفعالة لا في مجتمع الصعيد المصري وحده، بل في الثقافة العربية بشكل عام، فلقد لعبت الموروثات الشعبية دورا في ترسيخ عادة أخذ الثأر، خصوصا في المناطق التي تعج بالصراعات والعصبيات القبلية، وفي عادات هذه المجتمعات من قتل يُقتل، والعائلة التي تفرّط في حق قتيلها عائلة ضعيفة يلحقها عار التخاذل ما حيا أفرادها، والتسامح ليس تصرفا محمودا في هذا السياق، ويعتبر هذا مجمل اعتقاد أهل الصعيد تحديدا فيما يخص الأخذ بالثأر، والذي يجعله إلزاميا، ورغم ذلك فإن هناك مخرجا وحيدا هو ذاك الذي من شأنه أن يمنعهم عن الإصرار على الأخذ بالثأر.
وهو قبول القاتل الخضوع لسلسلة طويلة من العناصر الطقسية التي تعرف بطقس القودة، وهو طقس يهدف إلى قتل القاتل قتلا رمزيا عبر إجراءات معينة، ليبعثه مرة أخرى بعثا رمزيا، وأما عن القودة، أو بمعنى أخر تعني أن القاتل قد اقتيد لأهل القتيل ليفعلوا به ما يشائون وإن طقوس القودة في معظم قرى الصعيد متشابهة، وبرغم تشابه ظروف القودة في معظم قري الصعيد إلا أنها تختلف الآن عن فترة سابقة حيث ظهرت في مصر طريقة جديدة للقودة منذ الثمانينيات، والقودة تعني اقتياد الضحية إلى الموت أو الحياة وهى الحياة التي تأخذ شكل الأمل والاستمرار في الرضوخ لأحكام من يقبل الصلح وهى هيئة الموت المتعمد الواضح، وهناك أيضا في نفس الموضوع الجودة، وهي التي تكون بتعطيش الجيم.
وهى طريقة الموت الخطأ حين لا يستدل على القاتل الحقيقى في مشاجرة لذلك على العائلة المعتدية أن تقدم شخصا يرتضى ان يحمل الجودة، ويسمى الحامل للكفن جودة، لأنه أجاد بنفسه لردم الدم بين العائلتين، وتأخذ عملية العدول عن قرار الأخذ بالثأر وقتها والتدرُج في خطواتها بداية من تأجيل الثأر، والذي لا يعني بالضرورة قبول أهل القتيل لطقس القودة، فمدى التسويف والأخذ والرد فيها وإظهار الرفض دليل على تعنت الأسرة في فكرة المصالحة وعدم تفريطها في حق قتيلها، وصولا لخطوة التفاوض المباشر على التصالح والتي يتحدد فيها الشخص الذي سيقدم القودة، والذي وإن لم يكن القاتل سيكون الشخص صاحب المكانة الأعلى في عائلة القاتل إرضاء لغرور عائلة القتيل.
وبالأخص نساء العائلة الذين يُعد موافقتهم على التصالح على الدم شرطا أساسيا، وتعتبر مسالة العدول عن نيّة القتل، عملية وساطة مُعقدة يقوم عليها إما قاضي الدم أو الأجاويد، وقاضي الدم هو أحد الأشخاص الذي يتسم بالمكانة العالية في مجتمع الثأر، فضلا عن تمتعه بمهارات وخبرة خاصة في فض الخصومات الثأرية، أما الأجاويد فهم كبار العائلات والعُمد الذين يكتسبون من صفاتهم الكريمة مكانة عُليا في مجتمع الثأر تسمح لهُم بالوساطة لدى أهل القتيل، وقبول هذا التوسُط وقبول الصُلح يكون لأجل مكانة المُتوسطين، وليس كرامة للقاتل، وعادة تتكون المجالس العرفية من القضاة العرفيين للمجلس أو الكبار، وهم من يتسمون بالصدق والأمانة والمكانة الاجتماعية، وأيضا القدرة المادية.
ولجنة للفصل في الواقعة والتي يجب أن تكون عددا فرديا لضمان وجود رأى مرجح إذا تساوت الآراء اللجنة، ويتم اختيارها من قبل طرفي النزاع، حيث يختار كل طرف عدد مساوي للطرف الآخر، كما يختارون مكانا محايدا ينعقد فيه مجلس الصلح العرفي، وعادة ما يكون صاحب مكان انعقاد المجلس هو العضو الفردي في لجنة الفصل والمكمل لها، بعد ذلك يتم اختيار رئيس للجنة لتنظيم الحوار، ويكون هذا الاختيار على أساس السن والمركز الاجتماعي، وتقوم لجنة المصالحة من قاضي الدم أو الأجاويد على كتابة محضر التصالح، والذي يشتمل على كل تفاصيل عملية التقريب بين العائلتين، وإجراءات التحقيق التي تقوم بها لجنة المصالحة تلك، والجلسات المنفردة مع القاتل، وأهل القتيل، والتعهدات التي تؤخذ على كل منهم، وموعد احتفالية القودة.