الدكروري يكتب عن عفوا لقد نفذ عمركم ” جزء 9″
بقلم / محمـــد الدكـــرورى
ونكمل الجزء التاسع مع عفوا لقد نفذ عمركم، فإن هناك أناسا يرتكبون في اليوم الواحد جبالا من الخطايا، وتلالا من الذنوب ومع ذلك لا يهتمون لها، ولا يتأسفون عليها، فتراهم يلعبون ويمرحون، ويضحكون ولا يبكون، وكأنهم سوف يخلدون في هذه الدار، وكأن الموت بعيد عنهم، وكأنهم لن يعرضوا على الله عز وجل ليس بينهم وبينه حجاب ولا ترجمان، في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون، وأما الأمنية الثالثة التي يتمناها هؤلاء الموتى، فهي العودة إلى الدنيا ولو للحظات معدودة، ليكونوا صالحين، ليعملوا أي عمل صالح، ليصلحوا ما أفسدوا، ويطيعوا الله عز وجل في كل ما عصوا، ليذكروا الله تعالى ولو مرة، يتمنون النطق ولو بتسبيحة واحدة، ولو بتهليلة واحدة، فلا يؤذن لهم، ولا تحقق أمنياتهم، إنا لله وإنا إليه راجعون، قال الله عز وجل في شأنهم.
كما جاء في سورة المؤمنون ” حتي إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلي يوم يبعثون” وهذا هو حال المقصر مع الله تعالى إذا وافته المنية، يقول “رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت” ويقول ” لو أن لي كرة فأكون من المحسنين” فإن الميت العاصي إذا هجمت عليه منيته، وأحاطت به خطيئته، وانكشف له الغطاء، صاح وامنيتاه، واسوء منقلباه، رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت، هذه هي أمنيته الوحيدة، فالموتى قد انتهت فرصتهم في الحياة، وعاينوا الآخرة، وعرفوا ما لهم وما عليهم، أدركوا أنهم كانوا يضيعون أوقاتهم فيما لم يكن ينفعهم في آخرتهم، أن الوقت الذي ضاع من بين أيديهم كان لا يقدر بثمن، أنهم كانوا في نعمة ولكنهم لم يستغلوها.
وأصبحوا يتمنون عمل حسنة واحدة لعلها تثقل ميزانهم وتخفف لوعتهم وترضي ربهم، فلا يستطيعون، أي حسرة هذه، وأي ندامة يعيشونها؟ وإن أكثر ما يكون الإنسان غفلة عن نعم الله عليه حينما يكون مغمورا بتلك النعم، ولا يعرف فضلها إلا بعد زوالها، فنحن معشر الأحياء في أكبر نعمة، طالما أن أرواحنا في أجسادنا لنستكثر من ذكر الله عز وجل وطاعته، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم “القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حُفر النار” وكان الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه إذا شيع جنازة بكى حتى يغمى عليه فيحملونه إلى بيته كالجنازة إلى بيته، فقالوا له مالك؟ فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم “يقول القبر أول منازل الآخرة فإذا نجا العبد فيه أفلح وسعد، وإذا خسر والعياذ بالله خسر، أخرته كلها”
ولقد أخبرنا الله عز وجل عن حال هؤلاء الجلساء وبراءة بعضهم من بعض في الآخرة، فقال تعالى ” الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين” وعن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله تعالى” الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين” قال هناك خليلان مؤمنان، وخليلان كافران، وقد توفي أحد المؤمنين فبشر بالجنة، فذكر خليله فقال اللهم إن خليلي فلانا كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر وينبئني أني ملاقيك، اللهم فلا تضله بعدي حتى تريه ما أريتني وترضى عنه كما رضيت عني، فيقال له اذهب فلو تعلم ما له عندي لضحكت كثيرا ولبكيت قليلا، ثم يموت الآخر، فيجمع بين أرواحهما، فيقال ليثني كل واحد منكما على صاحبه، فيقول كل واحد منهما لصاحبه نعم الأخ ونعم الصاحب ونعم الخليل.
وأما إذا مات أحد الكافرين بشر بالنار فيذكر خليله فيقول اللهم إن خليلي فلانا كان يأمرني بمعصيتك ومعصية رسولك ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير وينبئني أني غير ملاقيك، اللهم فلا تهده بعدي حتى تريه مثل ما أريتني وتسخط عليه كما سخطت عليّ، فيموت الآخر، فيجمع بين أرواحهما، فيقال ليثني كل واحد منكما على صاحبه، فيقول كل واحد لصاحبه بئس الأخ وبئس الصاحب وبئس الخليل، وأخرج ابن أبي شيبة عن كعب رضي الله عنه قال يؤتى بالقائد غلي الخير يوم القيامة فيقال أجب ربك، فيُنطلق به إلى ربه، فلا يحجب عنه، فيؤمر به إلى الجنة، فيرى منزله ومنازل أصحابه الذين كانوا يجامعونه على الخير ويعينونه عليه، فيقال هذه منزلة فلان، وهذه منزلة فلان، فيرى ما أعد الله تعالي في الجنة من الكرامة، ويرى منزلته أفضل من منازلهم، ويكسى من ثياب الجنة.