الدكروري يكتب عن عفوا لقد نفذ عمركم ” جزء 3″
بقلم / محمـــد الدكـــروري
ونكمل الجزء الثالث مع عفوا لقد نفذ عمركم، فإن الدنيا بقاءها قليل، وعزيزها ذليل، وغنيها فقير، شبابها يهرم، وجديدها يبلى، وضيفها يرحل، وحيها يموت، فلا يغرنكم إقبالها عليكم مع معرفتكم بسرعة إدبارها فالمغرور حقا من اغتر بها، أين سكانها الذين بنوا مدائنها وشقوا أنهارها وغرسوا أشجارها وأقاموا فيها أياما طويلة
، غرتهم صحتهم وخدعهم نشاطهم وألهتهم الأماني والمنون، فركبوا المعاصي وغفلوا عن الطاعة، كانوا والله في الدنيا مغبوطين بالأموال الكثيرة والصحة العظيمة فأخذهم هادم اللذات وفرقهم مفرق الجماعات نغص نعيمهم وكدر عيشهم وقطع لذتهم وراحتهم فدخلوا القبور بعد القصور وتوسدوا التراب بعد الديباج وخالطتهم الديدان والهوام بعد الخدم والخلان، فكانوا في الدنيا على أسرة ممهدة وفرش منضدة بين خدم يخدمون وأهل يكرمون.
وجيران يعضدون ويواسون، فإذا مررت بمقابرهم فنادهم إن كنت مناديا وادعهم إن كنت لا بد داعيا ومر بعسكرهم وانظر ماذا فعل التراب بأبدانهم والرمل بأجسادهم والدود بعظامهم وأوصالهم وانظر إلى تقارب منازلهم التي كان بها عيشهم، وسل غنيهم ما بقي من غناه وفقيرهم ما بقي من فقره، سلهم عن الألسنة التي كان في الحرام بها يتكلمون،
وعن الأعين التي كان بها إلى اللذات ينظرون وسلهم عن الجلود الرقيقة والوجوه الحسنة والأجساد الناعمة ما صنعت بها القبور والله لقد محت الألوان وأكلت اللحمان وعفرت الوجوه ومحت المحاسن وكسرت القفار وأبانت الأعضاء، أين مجالسهم وقبابهم التي كانوا بها يجلسون، وأين خدمهم وعبيدهم الذي كانوا يخدمون وأين جمعهم وكنوزهم التي كانوا يدخرون، والله ما زودوا في القبور فراشا ولا وضعوا هناك متكئا.
ولا غرسوا فيها شجرا ولا أنزلوا من اللحد قرارا، أليسوا في منازل الخلوات والفلوات غرباء، أليس الليل والنهار عليهم سواء قد حيل بينهم وبين ما يشتهون انقطعت أعمالهم وفارقوا أحبابهم وانقطع عنهم نعيمهم، فكم من ناعم وناعمة أصبحوا ووجوههم في القبور بالية وأجسادهم في أعناقه نائية،
وأوصالهم ممزقة، قد سالت الحدق على الوجنات وامتلأت الأفواه دما وقيحا وصديدا، ودب الدواب الأرض في أجسادهم ففرقت أعضاءهم، ثم لم يلبثوا والله إلا يسيرا حتى عادت العظام رميما والأجسام حطاما، قد فارقوا الحدائق وساروا بعد السعة إلى المضائق وتزوجت نساؤهم وترددت في الطرقات أبناءهم وتوزعت القرابات ديارهم وأموالهم، فمنهم والله الموسّع في قبره الغض الناظر فيه المتنعم بلذاته ، ومنهم والله المضيّق عليه في قبره المنغص عليه فيه.
المعجل له العذاب، فيا ساكن القبر غدا ما الذي غرك عن الآخرة من الدنيا، هل تعلم أنك تبقى فيها أو أنها تبقى لك، فأين الأمم الخالية إذا وأين الأجيال المتعاقبة على هذا الدار، أين الأنبياء المرسلون وأين العظماء والملوك، أما ترى الموت يحل بهم، فإن الموت من حولك ومن أمامك ومن خلفك صغارا وكبارا ورجالا و نساءا ملوكا و مملوكين، فلا يدفعونه عن أنفسهم يتقلبون في غمرات الموت وسكراته،
قد جاءهم أمر الله فلم يستقدموا ساعة ولا يستأخرون فيا مغمض الوالد والولد ويا مغسل الأقرب والصديق ويا مكفن الموت وحامله، يا من تركته في القبر راجعا عنه اتقي الله في نفسك واتقي الله في نفسك وابكي على نفسك قبل أن يبكى عليك، وإن في الجنائز عبرة لأهل العقول والأبصار وتنبيها لأهل الأحلام وأولي النهى، وتذكيرا لأهل الإعراض والغفلة.
الذين لا تزيدهم مشاهدة الموتى إلا قساوة وبعدا، لأنهم ظنوا أنهم أبدا إلى جنائز غيرهم ينظرون ولا يحسبون أنهم على الجنائز سيحملون، وقد قال الخليفة الراشد عمر ابن عبد العزيز ” أيها الناس ألا ترون أنكم تجهزون كل يوم غاديا ورائحا إلى الله، تضعونه في سبع من الأرض قد توسد التراب وفارق الأحباب وقطع الأسباب، وقف بالمقابر واذكر إن وقفت بها لله درك ماذا تستر الحفر، ففيهمو لك يا مغرور موعظة وفيهمو لك يا مغرور معتبر، كانوا ملوكا تواريهم قصورهمو،
دهرا فوارتهمو من بعدها الحفر، فيا من غفلتم عن الموت ولم تعدوا لنزول القبر وعمرتم القصور الشاهقة وتلذذتم بالفرش الوافرة والنعم الشهية، تذكروا التراب الذي ستدفنون فيه والظلمة التي ستسيرون إليها في القبور ، واعلموا أن القبر موحش مظلم إلا على من أناره الله وآنسه عليه، ألا فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة.