عفوا لقد نفذ عمركم ” جزء 1″
بقلم / محمـــد الدكـــرورى
إن الإنسان سيقف أمام الديان الواحد القهار، وسيسأل عن القليل والكثير، وعن الصغير والكبير، وعن العمر فيما أفناه؟ وعن الشباب كيف قضاه؟ وعن المال من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ فلا تظن يا ابن آدم أن الحساب سيكون يسيرا، بل إنه حساب بالذرة، وستسأل عن كل صغيرة وكبيرة، فمنهم من يحاسب حسابا يسيرا، وينقلب إلى أهله مسرورا، ومنهم من يحاسب حسابا عسيرا، ويدعو ثبورا، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه، أي ستره فيقول أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول نعم أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى العبد في نفسه أنه قد هلك، قال الله عز وجل سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته، فانظر يا ابن آدم إلي حالك بعد الموت.
وكيف تكون الليلة الأولى في القبر؟ يوم توضع فريدا وحيدا مملقا إلا من العمل، لا زوجةَ ولا أطفال ولا أنيس، حيث يقول الله عز وجل في سورة الأنعام ” ثم ردوا إلى اللهِ مولاهم الحق ألا لهُ الحكمُ وهو أسرع الحاسبين” واعلم ان أول ليلة في القبر بكي منها العلماء، وشكا منها الحكماء، ورثى منها الشعراء، وصنفت فيها المصنفات، فاعلم أن الدقيقة التي تمر من حياتك يتمنى مثلها ملايين الموتى ليستثمروها في طاعة الله، ليحدثوا لله فيها توبة، ليذكروا الله فيها ولو مرة، ولكن لا تحقق أمانيهم، فلا تصرف دقائق عمرك في غير طاعة، لئلا تتحسر في يوم لا ينفع فيه الندم، فقد قال الله تعالى في سورة الزمر ” أن تقول نفس يا حسرتي علي ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين، أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين، أو تقول حين تري العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين، بلي قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين، ويوم القيامة تري الذين كذبوا علي الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين، وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون”
فإن غاية أمنية الموتى في قبورهم حياة ساعة، بل دقيقة، يستدركون فيها ما فاتهم من توبة وعمل صالح، أما نحن أهل الدنيا فمفرطون في أوقاتنا بل في حياتنا، نبحث عما يقتل أوقاتنا، لتذهب أعمارنا سدى في غير طاعة، ومنا من يقطعها بالمعاصي، ولا ندري ماذا تخبئ لنا قبورنا من نعيم أو مآس، نسمع المنادي ينادي إلى الصلاة، ولكن لا حياة لمن تنادي، فنحن الآن في دار العمل، والآخرة دار الجزاء، فمن لم يعمل هنا ندم هناك، وكل يوم تعيشه هو غنيمة، فإياك والتهاون فيه، فإن غاية أمنية الموتى في قبورهم، هو حياة ساعة، يستدركون فيها ما فاتهم من عمل صالح، ولا سبيل لهم إلى ذلك البتة، لانتهاء فرصتهم في الحياة، فإن السعيد من إذا مات ماتت ذنوبه معه.
ومسكين ثم مسكين مَن إذا مات لم تمت ذنوبه معه، لأنه سيتمنى العودة إلى الدنيا ليتخلص مما اقترفت يداه، ولكن هيهات هيهات، حيث قال سبحانه وتعالى ” حتي إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت” إنها التوبة الصادقة النابعة من القلب بعد ما رأي الحقيقة كاملة ولكن بعد فوات الأوان، أبعد مواجهة الموت، تتمنى الرجوع إلى الدنيا لتصلح ما تركت وما خلفت؟ ولهذا جاء الرد على هذا الرجاء المتأخر ” كلا إنها كلمة هو قائلها” لأنه رجاء قيل في لحظة الضيق، ليس له من القلب من رصيد، فإذا زرت المقبرة، أو شيعت جنازة، لا تكن عندها من الغافلين، ولا تكثر الحديث مع أحد، وإنما تذكر أمنيات هؤلاء الأموات الذين من حولك، المرتهنين بأعمالهم، واغتنم فرصتك في الحياة، لتذكر الله كثيرا، لئلا تكون غدا مع الموتى.
فتصبح تتمنى كما بعضهم يتمنى، وقال إبراهيم التيمي، مثلت نفسي في النار، آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي أي شيء تريدين؟ قالت أريد أن أعود إلى الدنيا فأعمل صالحا، قال فقلت أنتي في الأمنية فاعملي، فإذا هممت بمعصية تذكر أماني الموتى، وتذكر أنهم يتمنون لو عاشوا ليطيعوا الله عز وجل، فكيف أنت تعصي الله؟ فإذا زرت المقابر ذات يوما، فقف أمام قبر مفتوح، وتأمل هذا اللحد الضيق، وتخيل أنك بداخله، وقد أغلق عليك الباب، وانهال عليك التراب، وفارقك الأهل والأولاد، وقد أحاطك القبر بظلمته ووحشته، فلا ترى إلا عملك، فماذا تتمنى يا ترى في هذه اللحظة الحرجة؟ ألا تتمنى الرجوع إلى الدنيا لتعمل صالحا؟ لتركع ركعة؟ لتسبح تسبيحة؟ لتذكر الله تعالى ولو مرة؟