الدكرورى يكتب عن المنّ والسلوي في رحلة التيه ” جزء 10″
بقلم / محمـــد الدكـــرورى
المنّ والسلوي في رحلة التيه ” جزء 10″
ونكمل الجزء العاشر مع المنّ والسلوي في رحلة التيه، وهذه قاعدة في علم القلوب، وفي علم الحروب، فمتى دخلتم على القوم في عقر دارهم انكسرت قلوبهم بقدر ما تقوى قلوبكم؟ وبعدها هل نفع النصح في اليهود؟ وهل استجابوا لمقولة ذلك الرجلان؟ لقد قالوا كما جاء فى سورة المائدة ” قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون” فما أشنع هذا الكلام؟ بل وإلقاؤه على نبي؟ وأين؟ إنه في هذا المقام الحرج الضيق الذي قد دعت الحاجة والضرورة فيه إلى نصرة نبي الله موسى عليه السلام، فقالوا ” إنا لن ندخلها أبدا” وهكذا يكون الجبن، وبعدها تكون الوقاحة من اليهود ” فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون” فإنا لا نريد ملكا، ولا نريد عزا، ولا نريد أرض الميعاد.
ولا نريد بيت المقدس، فكل هذا فليذهب إن كان هناك قتال وجهاد، وبهذا وأمثاله يظهر التفاوت بين الأمم، فبنو إسرائيل هذا كان جوابهم، وأما بنو إسماعيل الحنفاء، فكان جوابهم عندما شاورهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، في القتال يوم بدر، قال الصحابة “ولا نقول لك، كما قالت بنو إسرائيل لموسى ” فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون” ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون” وكان ممن أجاب يومئذ المقداد بن عمرو رضي الله عنه، كما قال الإمام أحمد رحمه الله؟ قال فعندما وصل الأمر إلى هذا الحال، وأصبح القوم يتفلتون من التكاليف، ويتجرؤون على نبي الله، عندها كان لابد من العقوبة الإلهية، فجعلهم الله عز وجل يتيهون في الأرض أربعين سنة لا يهتدون إلى طريق.
ولا يبقون مكانهم في الصحراء مطمئنين، وإنه لعجيب هذا العذاب، فإنه ليس رجل لوحده لكي يتيه في الصحراء، وليسوا أفرادا معدودين، لا خبرة لهم بطرق وشعاب الصحراء، بل كانوا أمة كاملة ومجتمعا كاملا بأسره، تاهوا في صحراء سيناء ليس يوم ولا أسبوع ولا سنة، بل أربعين سنة، وحصلت لهم أمور عجيبة وخوارق كثيرة، كما يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله، خلال هذه المدة فقد مات أقوام، وولد أقوام، وحصل تضليلهم بالغمام، وإنزال المن والسلوى عليهمـ، وإخراج الماء الجاري من صخرة صماء، تحمل معهم على دابة، فإذا ضربها نبى الله موسى عليه السلام، بعصاه انفجرت من ذلك الحجر اثنتي عشرة عينا، وهناك نزلت التوراة وشرعت لهم الأحكام، ثم كانت وفاة نبى الله هارون عليه السلام.
ثم بعده بثلاث سنين وفاة نبى الله موسى عليه السلام، وأقام الله تعالى عليهم يوشع بن نون عليه السلام نبيا من بعد نبى الله موسى، ومات أكثر بني إسرائيل في تلك الصحراء، في تلك المدة، وكانت هذه عقوبة دنيوية نزلت باليهود، وفي هذا دليل على أن العقوبة على الذنب قد تكون بزوال نعمة موجودة، أو دفع عقوبة أعظم منها قد انعقد أسباب وجودها، أو تأخرها إلى وقت آخر، وقال الله تعالى كما جاء فى سورة الروم ” ولله الأمر من قبل ومن بعد” ولعل الحكمة والله أعلم، كما ذكر ذلك غير واحد من علماء التفسير، أنه في خلال هذه الأربعين سنة يموت أكثر الذين قالوا تلك المقالة لنبى الله موسى عليه السلام، وهى تلك المقولة الصادرة عن قلوب مريضة، قلوب لا صبر لها ولا ثبات.
قلوب ألفت الاستعباد لعدوها، ترضى أن تكون مستعبدة، مقهورة، ولا استعداد لتقديم تضحية لرفع الظلم والذلة، ولكي ينشأ في تلك الصحراء ناشئة جديدة، تربت أجسادها على خشونة الصحراء، وتربت عقولها على طلب قهر الأعداء، وعدم الاستعباد والذل المانع من السعادة، فقال الله تعالى كما جاء فى سورة المائدة ” قال رب إنى لا أملك إلا نفسى وأخى فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين، قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون فى الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين” وإن البعض منا عندما يسمع بكلمة التيه، وربما أول ما يتبادر إلى ذهنه أن يتيه طفل صغير عن بيت والديه في بعض سكك المدينة، أو يتيه رجل في صحراء، ونحو ذلك، لكن قل ما يتفطن الشخص إلى أن الأمم قد تتيه والشعوب قد تتيه.