عن المنّ والسلوي في رحلة التيه ” جزء 3″
بقلم / محمـــد الدكـــرورى
المنّ والسلوي في رحلة التيه ” جزء 3″
ونكمل الجزء الثالث مع المنّ والسلوي في رحلة التيه، ولقد ذكر القرآن إلى جانب الغمام المنّ والسلوى، ومن هذا يتبين أن تلك الفيافي المجدبة كان يعوزها الطعام والماء،
فكان الله تعالى يطفئ عطشهم بالسحب الداكنة الممطرة، ويزيل جوعهم بالمن والسلوى، وإن من عادة الله المستمرة أنه يمنّ على عباده ببركات خاصة ليدرأ عنهم الأذى ويهيء لهم الراحة، وما فعل الله تعالى هذا في الماضي فقط بل يفعله اليوم أيضا مع عباده الصالحين، فلا يصح أن يراد بظلال الغمام أن الله تعالى كان يأمر السحاب لتتحرك معهم لتظلهم دائما حيثما حلوا وارتحلوا،
إذ أن ظلال السحب المستمر نقمة لا نعمة، وكان بنو إسرائيل قد عاشوا عبيدا تحت الفراعنة لمدة طويلة.
فأراد الله تعالى أن يعيشوا في البرية أحرارا لزرع أخلاق الجرأة والشجاعة فيهم، فبدلا من أن يبلغهم كنعان في وقت قصير تركهم مدّة في صحراء سيناء وما حولها من الأماكن، وهيأ لهم هناك أغذية بدون جهد وتعب من جانبهم
، منها ما هو حلو ومنها ما هو مالح ومنها ما هو صلب ومنها ما هو ليّن ومنها ما يطهى ومنها ما يؤكل نيئا في تنوع يرضي شتى الأذواق، ويسد الجوع، ويغذي الجسم، ويحفظ الصحة فبالغمام هيأ الله تعالى لبني إسرائيل الماء، وبالمن وفر لهم غذاء من الفاكهة والخضر، وبالسلوى زودهم باللحم والعسل وغيرها من المأكولات التي تسلي القلب، وإن كلمة “أنزلنا” جديرة بالتأمل فلا يعني هذا أن الله تعالى أنزل المن والسلوى من السماء.
وإنما كانت مما ينمو على الأرض واستخدم لها كلمة “أنزلنا” لأنه تعالى هيأها لبني إسرائيل في ظروف غير عادية، فالنزول يدل على الإعزاز والإكرام، أو توفير شيء في أحوال صعبة، وعلى الذين يقعون بسبب كلمة النزول في أنواع الأخطاء في مسألة نزول المسيح المنتظر أن يتدبروا وينتبهوا إلى هذه الأساليب القرآنية، فإذا كان إطلاق كلمة النزول على المنّ والسلوى وهما من نتاج الأرض ممكنا فكيف لايجوز استخدام النزول لمجيء المسيح المنتظر الذي خُلق على الأرض، وإن الحق أن ظهور نفس طاهرة مصلحة في مثل هذا الزمن المشحون بأنواع الفسق والفجور، يسمى نزولا في الاصطلاح الإلهي، وقد ورد للمسيح الموعود أيضا بنفس المعنى.
وقوله تعالى ” كلوا من طيبات ما رزقناكم” يشير إلى أن هذه الأغذية بالغة الفائدة لكم في هذه الظروف، وسوف تسد حاجاتكم من الطعام والشراء، فالطيب يعني اللذيذ، الطاهر، الحسن، الحلو، الممتاز، وهذا يعني أن ما رزقناكم به من غذاء يكفل لكم لذة الطعم
، ويساعد على صلاح أخلاقكم، وهو حسن حلو ممتاز في قيمته ومنافعه، فكلوا منه، وتخلقوا بمحاسن الأخلاق، واستعدوا للمهمة الجليلة التي تنتظركم، ولا يعني قوله تعالى أن الطيبات التي نزلت على تبى الله موسى وقومه من المن والسلوى هي الطيبات فقط، بل إن كل كلمة، مدحا كانت أو ذما، تعطي معنى نسبيا، فالشيء الذي يكون في وقت مفيدا، أو لشخص مفيدا، فإنه يكون ضارا في وقت أو لشخص آخر.
والعكس صحيح أيضا، فالأشياء التي أعطيت لبني إسرائيل، وإن كانت من الطيبات بوجه عام، ولكنها نظرا لظروفهم عندئذ كانت طيبات لهم بوجه خاص، واستبدال أغذية أخرى بها لم يكن ليحقق الغرض الذي من أجله تركهم الله تعالى في صحراء سيناء
، ويبدو من عبارة التوراة أن قدوم طير السماني كان بمثابة عذاب لبني إسرائيل، لأن غضب الله نزل عليهم قبل أن يمضغوا أول لقمة من لحمه، ولكن القرآن الكريم يقول على عكس ذلك، بأن هذا الطير جاء نعمة وإحسانا لهم، والحق أن ما يقوله القرآن هو الصواب، لأن توفير الغذاء في البيداء، ثم إنزال العذاب بسبب جمعه وأكله يُعدّ ظلما، فلو كان الله تعالى نبههم من قبل بأن طيور السماني ستأتيكم فلا تأكلوها لكان هناك مبرر للغضب عليهم.